فصل: تفسير الآية رقم (17)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ‏(‏13‏)‏‏}‏

‏{‏يُولِجُ اليل فِى النهار وَيُولِجُ النهار فِى اليل‏}‏ بزيادة أحدهما ونقص الآخر بإضافة بعض أجزاء كل منهما إلى الآخر ‏{‏وَسَخَّرَ الشمس والقمر‏}‏ عطف على ‏{‏يُولِجُ‏}‏ واختلافهما صيغة لما أن إيلاج أحد الملوين في الآخر متجدد حينا فحينا وأما تسخير النيرين فأمر لا تعدد فيه وإنما المتعدد والمتجدد آثاره، وقد أشير إليه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كُلٌّ‏}‏ من الشمس والقمر ‏{‏يَجْرِى‏}‏ أي بحسب حركته على المدارات اليومية المتعددة حسب تعدد أيام السنة أو بحسب حركتيه الخاصة وهي من المغرب إلى المشرق والقسرية التي هي من المشرق إلى المغرب جريانا مستمراً ‏{‏لاِجَلٍ مُّسَمًّى‏}‏ قدره الله تعالى لجريانهما وهو يوم القيامة كما روي عن الحسن‏.‏

وقيل جريانهما عبارة عن حركتيهما الخاصتين بهما والأجل المسمى عبارة عن مجموع مدة دورتيهما أو منتهاها وهي للشمس سنة وللقمر شهر وقد تقدم الكلام في ذلك مفصلاً ‏{‏ذلكم‏}‏ إشارة إلى فاعل الأفاعيل المذكورة، وما فيه من معنى البعد للإيذان بغاية العظمة وهو مبتدأ وما بعده أخبار مترادفة أي ذلكم العظيم الشأن الذي أبدع هذه الصنائع البديعة ‏{‏الله رَبُّكُمْ لَهُ الملك‏}‏ وفيه من الدلالة على أن إبداعه تعالى لتلك البدائع مما يوجب ثبوت تلك الأخبار له تعالى، وفي الكشاف ويجوز في حكم الأعراب إيقاع اسم الله تعالى صفة لاسم الإشارة أو عطف بيان و‏{‏بِكُمْ‏}‏ خبراً لولا أن المعنى يأباه اه‏.‏

قال في الكشف‏:‏ فيه نظر لأن الاسم الجليل جار مجرى العلم فلا يجوز أن يقع وصفاً لاسم الإشارة البتة لا لفظاً ولا معنى، وكأنه فرض على تقدير عدم الغلبة، أما إباء المعنى على تقدير تجويز الوصف فقد قيل‏:‏ إن المقصود أنه تعالى المنفرد بالإلهية لا أن المنفرد بالالهية هو ربكم لأن المشركين ما كانوا معترفين بالمنفرد على الاطلاق‏.‏ وأما عطف البيان فقيل لأنه يوهم تخييل الشرك ألا ترى أنك إذا قلت ذلك الرجل سيدك عندي ففيه نوع شركة لأن ذا اسم مبهم، وكأنه أراد أن البيان حيث يذهب الوهم إلى غيره ويحتمل الشركة مناسب لا في مثل هذا المقام، وأفاد الطيبي أن ذلك يشار به إلى ما سبق للدلالة على جدارة ما بعده بسبب الأوصاف السابقة ولو كان وصفاً أو بياناً لكان المشاء إليه ما بعده، وهذا في الأول حسن دون الثاني اللهم إلا أن يكون قوله‏:‏ أو عطف بيان إشارة إلى المذهب الذي يجعل الجنس الجاري على المبهم غير وصف فيكون حكمه حكم الوصف إذ ذاك، وبعد أن تبين أن المقام للإشارة إلى السابق فاسم الإشارة قد يجاء به لأغراض آخر اه‏.‏

وأبو حيان‏:‏ منع صحة الوصفية للعلمية ثم قال لا يظهر إباء المعنى ذلك، ويجوز أن يكون قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَهُ الملك‏}‏ جملة مبتدأة واقعة في مقابلة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ‏}‏ ويكون ذلك مقرراً لما قبله من التفرد بالالهية والربوبية واستدلالاً عليه إذ حاصله جميع الملك والتصرف في المبدأ والمنتهى له تعالى وليس لغيره سبحانه منه شيء، ولذا قيل إن فيه قياساً منطقياً مطوياً‏.‏ وجوز أن يكون مقرراً لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله خَلَقَكُمْ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 11‏]‏ الخ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُولِجُ‏}‏ الخ فجملة ‏{‏الذين تَدْعُونَ‏}‏ الخ عليه إما استئنافية أيضاً وهي معطوفة على جملة «له الملك» وإما حال من الضمير المستقر في الظرف أعني له، وعلى الوجه الأول هي معطوفة على جملة «ذلكم الله» الخ أو حال أيضاً، والقطمير على ما أخرج ابن جرير‏.‏ وغيره عن مجاهد لفافة النواة وهي القشر الأبيض الرقيق الذي يكون بين التمر والنواة وهو المعنى المشهور‏.‏

وأخرج ابن جرير‏.‏ وابن المنذر أنه القمع الذي هو على رأس التمرة، وأخرج عبد بن حميد عن قتادة أنه القشرة على رأس النواة وهو ما بين القمع والنواة، وقال الراغب‏.‏ إنه الأثر على ظهر النواة، وقيل هو قشر الثوم، وأياً ما كان فهو مثل للشيء الدنيء الطفيف، قال الشاعر‏:‏

وأبوك يخصف نعله متوركا *** ما يملك المسكين من قطمير

وقرأ عيسى‏.‏ وسلام‏.‏ ويعقوب‏.‏ يدعون بالياء التحتانية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَاءكُمْ‏}‏ استئناف مقرر لما قبله كاشف عن جلية حال ما يدعونه بأنه جماد ليس من شأنه السماع، هذا إذا كان الكلام مع عبدة الأصنام ويحتمل أن يكون مع عبدتها وعبدة الملائكة‏.‏ وعيسى وغيرهم من المقربين، وعدم السماع حينئذ إما لأن المعبود ليس من شأنه ذلك كالأصنام وإما لأنه في شغل شاغل وبعد بعيد عن عابده كعيسى عليه السلام، وروي هذا عن البلخي أو لأن الله عز وجل حفظ سمعه من أن يصل إليه مثل هذا الدعاء لغاية قبحه وثقله على سمع من هو في غاية العبودية لله سبحانه، فلا يرد أن الملائكة عليهم السلام يسمعون وهم في السماء كما ورد في بعض الآثار دعاء المؤمنين ربهم سبحانه؛ وفي نظم ذي النفوس القدسية في سلك الملائكة عليهم السلام من حيثية السماع وهم في مقار نعيمهم توقف عندي بل في سماع كل من الملائكة عليهم السلام وهم في السماء وذوي النفوس القدسية وهم في مقار نعيمهم نداء من ناداهم غير معتقد فيهم الآلهية توقف عندي أيضاً إذ لم أظفر بدليل سمعي على ذلك والعقل يجوزه لكن لا يكتفي بمجرد تجويزه في القول به‏.‏

‏{‏وَلَوْ سَمِعُواْ‏}‏ على سبيل الفرض والتقدير ‏{‏مَا استجابوا لَكُمْ‏}‏ لأنهم لم يرزقوا قوة التكلم والسماع لا يستلزم ذلك فالمراد باللاستجابة الاستجابة بالقول، ويجوز أن يراد بها الاستجابة بالفعل أي ولو سمعوا ما نفعوكم لعجزهم عن الأفعال بالمرة، هذا إذا كان المدعون الأصنام وأما إذا كانوا الملائكة عليهم السلام أو نحوهم من المقربين فعدم الاستجابة القوللية لأن دعاءهم من حيث زعم أنهم آلهة وهم بمعزل عن الإلهية فكيف يجيبون زاعم ذلك فيهم وفيه من التهمة ما فيه، وعدم الاستجابة الفعلية يحتمل أن يكون لهذا أيضاً ويحتمل أن يكون لأن نفع من دعاهم ليس من وظائفهم، وقيل لأنهم يرون ذلك نقصاً في العبودية والخضوع لله عز وجل‏.‏

ويجوز أن يكون هذا تعليلاً للأول أيضاً فتأمل ‏{‏وَيَوْمَ القيامة يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ‏}‏ فضلاً عن أن يستجيبوا لكم إذا دعوتموهم، وشرك مصدر مضاف إلى الفاعل أي ويوم القيامة يجحدون إشراككم إياهم وعبادتكم إياهم وذلك بأن يقدر الله تعالى الأصنام على الكلام فيقولون لهم ما كنتم إيانا تعبدون أو يظهر من حالها ظهور نار القرى ليلا على علم ما يدل على ذلك ولسان الحال أفصح من لسان المقال، ومن هذا القبيل قول ذي الرمة‏:‏

وقفت على ربع لمية ناطق *** يخاطبني أثاره وأخاطبه وأسقيه حتى كاد مما أبثه

تكلمني أحجاره وملاعبه *** وإن كان المدعوون الملائكة ونحوهم فأمر التكلم ظاهر، وقد حكى الله تعالى قول الملائكة للمشركين في السورة السابقة بقوله سبحانه‏:‏

‏{‏وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ للملائكة أَهَؤُلاَء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ قَالُواْ سبحانك أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 0 4، 41‏]‏ ‏{‏وَلاَ يُنَبّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ‏}‏ أي لا يخبرك بالأمر مخبر مثل مخبر خبيراً خبرك به يعني به تعالى نفسه كما روي عن قتادة‏.‏ وغيره فإنه سبحانه الخبير بكنه الأمور، وهو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ويجوز أن يكون غير مختص أي لا يخبرك أيها السامع كائناً من كنت مخبر هو مثل الخبير العالم الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، والمراد تحقيق ما أخبر سبحانه به من حال آلهتهم ونفى ما يدعون لهم من الإلهية‏.‏

وقال ابن عطية‏:‏ يحتمل أن يكون ذلك من تمام ذكر الأصنام كأنه قيل‏:‏ ولا يخبرك مخبر مثل من يخبرك عن نفسه وهي قد أخبرت عن أنفسهما بأنها ليست بآلهة، وفيه من البعد ما فيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ‏(‏15‏)‏‏}‏

‏{‏خَبِيرٍ ياأيها الناس أَنتُمُ الفقراء إِلَى الله‏}‏ في أنفسكم وفيما يعن لكم من أمر معهم أو خطب ملم، وتعريف ‏{‏الفقراء‏}‏ للجنس أو للاستغراق إذ لا عهد، وعرف كذلك للمبالغة في فقرهم كأنهم لكثرة افتقارهم وشدة احتياجهم هم الفقراء فحسب وأن افتقار سائر الخلائق بالنسبة إلى فقرهم بمنزلة العدم وذلك قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 8 2‏]‏ ولا يرد الجن إذ هم لا يحتاجون في المطعم والملبس وغيرهما كما يحتاج الإنسان وضعفهم ليس كضعفه فلا حاجة إلى إدخالهم في الناس تغليباً على أنه قيل لا يضر ذلك إذ الكلام مع من يظهر القوة والعناد من الناس، والقول أن القصر إضافي بالنسبة إليه تعالى لا يخفى ما فيه، وقال صاحب الفرائد‏:‏ الوجه أن يقال والله تعالى أعلم المراد الناس وغيرهم وهو على طريقة تغليب الحاضر على الغائب وأولى العلم على غيرهم، وهو بعيد جداً‏.‏

وقال العلامة الطيبي‏:‏ الذي يقتضيه النظم الجليل أن يحمل التعريف في الناس على العهد وفي الفقراء على الجنس لأن المخاطبين هم الذين خوطبوا في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ لَهُ الملك‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 3 1‏]‏ الآية أي ذلكم المعبود هو الذي وصف بصفات الجلال لا الذين تدعون من دونه وأنتم أشد الخلائق احتياجا إليه عز وجل ولا يخلو عن حسن ‏{‏والله هُوَ الغنى‏}‏ عن كل شيء لا غيره ‏{‏الحميد‏}‏ المنعم على جميع الموجودات المستحق بانعامه سبحانه للحمد، وأصله المحمود وأريد به ذلك على طريق الكناية ليناسب ذكره بعد فقرهم إذ الغني لا ينفع الفقير إلا إذا كان جواداً منعماً ومثله مستحق للحمد، وهذا كالتكميل لما قبله كما في قول كعب الغنوي‏:‏

حليم إذا ما الحلم زين أهله *** مع الحلم في عين العدو مهيب

ويدخل في عموم المستغنى عنه المخاطبون وعبادتهم، وفي كلام الطيبي رائحة التخصيص حيث قال ما سمعت نقله وهو سبحانه غني عنكم وعن عبادتكم لأنه تعالى حميد له عباد يحمدونه وإن لم تحمدوه أنتم والأولى التعميم‏.‏

وما روي في سبب النزول من أنه لما كثر من النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء وكثر الاصرار من الكفار قالوا لعل الله تعالى محتاج لعبادتنا فنزلت لا يقتضي شيئاً من التخصيص في الآية كما لا يخفى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ‏(‏16‏)‏‏}‏

‏{‏إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ‏}‏ أي إن يشأ سبحانه إذهابكم أيها الناس والاتيان بخلق جديد يذهبكم ‏{‏وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ‏}‏ بعالم غير الناس لا تعرفونه هذا إذا كان الخطاب عاما أو إن يشأ يذهبكم أيها المشركون أو العرب ويأت بخلق جديد ليسوا على صفتكم بل مستمرون على طاعته وتوحيده، وهذا إذا كان الخطاب خاصاً، وتفسير الجديد بما سمعت مروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وياً ما كان فالجلمة تقرير لاستغنائه عز وجل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا ذلك‏}‏ أي ما ذكر من إهابهم والاتبيان بخلق جديد ‏{‏عَلَى الله بِعَزِيزٍ‏}‏ أي يصعب فإن أمره تعالى إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون‏.‏

وإن كان في الناس تغليب الحاضر على الغائب وأولى العلم على غيرهم وكان الخطاب هنا على ذلك الطرز وقلنا إن الآية تشعر بأن ما يأتي به سبحانه من العالم أبدع أشكل بحسب الظاهر قول حجة الإسلام ليس في الإمكان أبدع مما كان‏.‏ وأجيب بأن ذلك على فرض وقوعه داخل في حيز ما كان وهو مع هذا العالم كبعض أجزاء هذا العالم مع بعض أو بأن الأبدعية المشعور بها بمعنى والأبدعية في كلام حجة الإسلام بمعنى آخر فتدبر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ‏}‏ أي لا تحمل نفس آثمة ‏{‏وِزْرَ أخرى‏}‏ أي اثم نفس أخرى بل تحمل كل نفس وزرها‏.‏

ولا منافاة بين هذا وقوله تعالى في سورة العنكبوت ‏{‏وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 3 1‏]‏ فإنه في الضالين المضلين وهم يحملون اثم اضلالهم مع اثم ضلالهم وكل ذلك آثامهم ليس فيها شيء من آثام غيرهم، ولا ينافيه قوله سبحانه ‏{‏مَّعَ أَثْقَالِهِمْ‏}‏ لأن المراد بأثقالهم ما كان بمباشرتهم وبما معها ما كان بسوقهم وتسببهم فهو للمضلين من وجه وللآخرين من آخر ‏{‏وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ‏}‏ أي نفس أثقلتها الاوزار ‏{‏إلى حِمْلِهَا‏}‏ لالذي أثقلها ووزرها الذي بهضها ليحمل شيء منه ويخفف عنها، وقيل‏:‏ أي إلى حمل حملها ‏{‏لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَىْء‏}‏ لم تجب بحمل شيء منه، والظاهر أن ‏{‏وَلاَ تَزِرُ‏}‏ الخ نفى للحمل الاختياري تكرماً من نفس الحامل رداً لقول المضلين ‏{‏وَلْنَحْمِلْ خطاياكم‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 2 1‏]‏ ويؤيده سبب النزول فقد روي أن الوليد بن المغيرة قال لقوم من المؤمنين اكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وعلى وزركم فنزلت‏.‏

وهذا نفى للحمل بعد الطلب من الوازرة أعم من أن يكون اختياراً أو جبراً وإذا لم يجبر أحد على الحمل بعد الطلب والاستعانة علم عدم الجبر بدونه بالطريق الأولى فيعم النفي أقسام الحمل كلها، وكذا الحامل أعم من أن يكون وازراً أم لا، وجاء العموم من عدم ذكر المدعو ظاهراً، وقد يقال مع ذلك‏:‏ إن في الأولى نفي حمل جميع الوزر بحيث يتعرى منه المحمول عنه، وفي الثاني نفي التخفيف فلا اتحاد بين مضموني الجملتين كما لا يخفى، وقيل في الفرق بينهما‏:‏ إن أول نفي الحمل إجباراً والثاني نفي له اختياراً، وتعقب بأن المناسب على هذا ولا يوزر على وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها أحداً لا يحمل منه شيئاً، وأيضاً حق نفي الاجبار أن يتعرض له بعد نفي الاختيار، وقيل‏:‏ أن الجملة الأولى كما دلت على أن المثقل بالذنوب لا يحمل أحد من ذنوبه شيئاً دلت على عدله تعالى الكامل، والجملة الثانية دلت على أنه لا مستغاث من هول ذلك اليوم أيضاً وهما المقصودان من الآيتين فالفرق باعتبار ذلك، ولعل ما ذكرناه أولا أولى، وذكر بعض الأفاضل في الجملة الأولى ثلاثة أسئلة قال في الأخيرين منها‏:‏ لم أر من تفطن لهما وقد أجاب عن كل، الأول أن عدم حمل الغير على الغير عام في النفس الآثمة وغير الآثمة فلم خص بالآثمة مع أن التصريح بالعموم أتم في العدل وأبلغ في البشارة وأخصر في اللفظ وذلك بأن يقال‏:‏ ولا تحمل نفس حمل أخرى، وجوابه أن الكلام في أرباب الأوزار المعذبين لبيان أن عذابهم إنما هو بما اقترفوه من الأوزار لا بما اقترفه غيرهم، الثاني أن معنى وزر حمل الوزر لا مطلق الحلم على ما في النهاية الأثيرية حيث قال‏:‏ يقال وزر يزر فهو وازر إذا حمل ما يثقل ظهره من الأشياء المثقلة ومن الذنوب فكيف صح ذكر وزر مع يزر وجوابه أنه من باب التجريد، الثالث أن ‏{‏وازرة‏}‏ يفهم من تزر كما يفهم ضارب من يضرب مثلا فأي فائدة في ذكره‏؟‏ وجوابه أنه إذا قيل ضرب ضارب زيداً فالذي يستفاد من ضرب إنما هو ذات قام بها ضرب حدث من تعلق هذا الفعل بتلك الذات ولما عبر عن شيء بما فيه معنى الوصفية وعلق به معنى مصدري في صيغة فعل أو غيرها فهم منه في عرف اللغة أن ذلك الشيء موصوف بتلك الصفة حال تعلق ذلك المعنى به لا بسببه كما حققه بعض أجلة شراح الكشاف فيجب أن يكون معنى ضارب في المثال متصفاً بضرب سابق على تعلق ضرب به وكذا يقال في ‏{‏وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ‏}‏ وهذه فائدة جليلة ويزيدها جلالة استفادة العموم إذا أورد اسم الفاعل نكرة في حيز نفي، وبذلك يسقط قول العلامة التفتازاني إن ذكر فاعل الفعل بلفظ اسم فاعله نكرة قليل الجدوى جداً انتهى‏.‏

وأنت تعلم أنه من مجموع الجملتين يستفاد ما ذكره في السؤال الأول من العموم، وفي خصوص هاتين الجملتين وذكرهام معاً ما لا يخفى من الفائدة، وفي القاموس وزره كوعده وزرا بالكسر حمله، وفي الكشاف وزر الشيء إذا حمله، ونحوه في البحر، وعلى ذلك لا حاجة إلى التجريد فلا تغفل، وأصل الحمل ما كان على الظهر من ثقيل فاستعير للمعاني من الذنوب والآثام، وقرأ أبو السمال عن طلحة‏.‏ وإبراهيم عن الكسائي ‏{‏لاَّ تَحْمِلُ‏}‏ بفتح التاء المثناة من فوق وكسر الميم وتقتضي هذه القراءة نصب شيء على أنه مفعول به لتحمل وفاعله ضمير عائد على مفعول تدعو المحذوف أي وإن تدع مثقلة نفساً إلى حملها لم تحمل منه شيئاً ‏{‏وَلَوْ كَانَ‏}‏ أي المدعو المفهوم من الدعوة ‏{‏ذَا قربى‏}‏ ذا قرابة من الداعي، وقال ابن عطية‏:‏ اسم كان ضمير الداعي أي ولو كان الداعي ذا قرابة من المدعو، والأول أحسن لأن الداعي هو المثقلة بعينه فيكون الظاهر عود الضمير عليه وتأنيثه‏.‏

وقول أبي حيان ذكر الضمير حملا على المعنى لأن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مُثْقَلَةٌ‏}‏ لا يراد بها مؤنث المعنى فقط بل كل شخص فكأنه قيل وإن يدع شخص مثقل لا يخفى ما فيه‏.‏ وقرىء ولو كان ‏{‏ذُو قربى‏}‏ بالرفع، وخرج على أن ‏{‏كَانَ‏}‏ ناقصة أيضاً و‏{‏ذُو قربى‏}‏ اسمها والخبر محذوف أي ولو كان ذو قربى مدعوا، وجوز أن تكون تامة‏.‏

وتعقب بأنه لا يلتئم معها النظم الجليل لأن الجملة الشرطية كالتتميم والمبالغة في أن لا غياث أصلا فيقتضي أن يكون المعنى أن المثقلة إن دعت أحداً إلى حملها لا يجيبها إلى ما دعته إليه ولو كان ذو القربى مدعوا، ولو قلنا إن المثقلة إن دعت أحداً إلى حلمها لا يحمل مدعوها شيئاً ولو حضر ذو قربى لم يحسن ذلك الحسن، وملاحظة كون ذي القربى مدعوا بقرينة السياق أو تقدير فدعته كما فعل أبو حيان خلاف الظاهر فيخفى عليه أمر الانتظام ‏{‏إِنَّمَا تُنذِرُ‏}‏ الخ استئناف مسوق لبيان من يتعظ بما ذكر أي إنما تنذر بهذه الإنذارات ونحوها ‏{‏الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بالغيب‏}‏ أي يخشونه تعالى غائبين عن عذابه سبحانه أو عن الناس في خلواتهم أو يخشون عذاب ربهم غائباً عنهم فالجار والمجرور في موضع الحال من الفاعل أو من المفعول ‏{‏والذين يُمَسّكُونَ‏}‏ أي راعوها كما ينبغي وجعلوها مناراً منصوباً وعلماف مرفوعاً أي إنما ينفع إنذارك وتحذيرك هؤلاء من قومك دون من عداهم من أهل التمرد والعناد، ونكتة اختلاف الفعلين تعلم مما مر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الله الذى أَرْسَلَ الرياح فَتُثِيرُ سحابا‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 9‏]‏ فتذكر ما في العهد من قدم‏.‏

‏{‏وَمَن تزكى‏}‏ تطهر من أدناس الأوزار والمعاصي بالتأثر من هذا الإنذارات ‏{‏فَإِنَّمَا يتزكى لِنَفْسِهِ‏}‏ لاقتصار نفعه عليها كما أن من تدنس بها لا يتدنس إلا عليها، والتزكي شامل للخشية وإقامة الصلاة فهذا تقرير وحث عليهما‏.‏

وقرأ العباس عن أبي عمرو ‏{‏وَمِنْ يزكى فَإِنَّمَا يزكى‏}‏ بالياء من تحت وشد الزاي فيهما وهما مضارعان أصلهما ومن يتزكى فإنما يتزكى فادغمت التاء في الزاي كما أدغمت في ‏{‏يذكرون‏}‏، وقرى ابن مسعود‏.‏ وطلحة ‏{‏وَمِنْ أزكى‏}‏ بادغام التاء في الزاي واجتلاب همزة الوصل في الابتداء، وطلحة أيضاً ‏{‏فَإِنَّمَا تزكى‏}‏ بادغام التاء في الزاي ‏{‏وإلى الله المصير‏}‏ لا إلى أحد غيره استقلالاً أو اشتراكاً فيجازيهم على تزكيهم أحسن الجزاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا يَسْتَوِى الاعمى والبصير‏}‏ عطف على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا يَسْتَوِى البحران‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 12‏]‏ والأعمى والبصير مثلان للكافر والمؤمن كما قال قتادة‏.‏ والسدى‏.‏ وغيرهما‏.‏

وقيل‏:‏ هما مثلان للصنم عز وجل فهو من تتمة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ لَهُ الملك‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 3 1‏]‏ والمعنى لا يستوي الله تعالى مع ما عبدتم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏وَلاَ الظلمات وَلاَ النور‏}‏ أي ولا الباطل ولا الحق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏وَلاَ الظل وَلاَ الحرور‏}‏ ولا الثواب ولا العقاب، وقيل‏:‏ ولا الجنة ولا النار، والحرور فعول من الحر وأطلق كما حكى عن الفراء على شدة الحر ليلاً أو نهاراً، وقال أبو البقاء‏:‏ هو شدة حر الشمس، وفي الكشاف الحرور السموم إلا أن السموم يكون بالنهار والحرور بالليل والنهار، وقيل‏:‏ بالليل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ‏(‏22‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا يَسْتَوِى الاحياء وَلاَ الاموات‏}‏ تمثيل آخر للمؤمنين الذين دخلوا في الدين بعد البعثة والكافرين الذين أصروا واستكبروا فالتعريف كما قال الطيبي للعهد، وقيل‏:‏ للعلماء والجهلاء‏.‏

والثعالبي جعل الأعمى والبصير مثلين لهما وليس بذاك ‏{‏إِنَّ الله يُسْمِعُ مَن يَشَاء‏}‏ أي يسمعه ويجعله مدركاف لللأصوات، وقال الخفاجي‏:‏ وغيره‏:‏ ولعل في الآية ما يقتضي أن المراد يسمع من يشاء سماع تدبر وقبول لآياته عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِى القبور‏}‏ ترشيح لتمثيل المصرين على الكفر بالأموات واشباع في إقناطه عليه الصلاة والسلام من إيمانهم، والباء مزيدة للتأكيد أي وما أنت مسمع، والمراد بالسماع هنا ما أريد به في سابقه، ولا يأبى إرادة السماع المعروف ما ورد في حديث القليب لأن المراد نفي الإسماع بطريق العادة وما في الحديث من باب ‏{‏وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 7 1‏]‏ وإلى هذا ذهب البعض، وقد مر الكلام في ذلك فلا تغفل‏.‏

وما ألطف نظم هذه التمثيلات فقد شبه المؤمن والكافر أولا بالبحرين وفضل البحر الأجاج على الكافر لخلوه من النفع ثم بالأعمى والبصير مستتبعاً بالظلمات والنور والظل والحرور فلم يكتف بفقدان نور البصر حتى ضم إليه فقدان ما يمده من النور الخارجي وقرن إليه نتيجة ذلك العمى والفقدان فكان فيه ترق من التشبيه الأول إليه ثم بالأحياء والأموات ترقياً ثانياً وأردف قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِى القبور‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 22‏]‏‏.‏

وذكر الطيبي أن إخلاء الثاني من لا المؤكدة لأنه كالتهيد لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما يستوي الأحياء ولا الأموات‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 22‏]‏ ولهذا كرر ‏(‏وما يستوي‏)‏‏}‏ وأما ذكرها في التمثيلين بعده فلأنهما مقصودان في أنفسهما إذ ما فيهما مثلان للحق والباطل وما يؤديان إليه من الثواب والعقاب دون المؤمن والكافر كما في غيرهما، وإنما حملت على أنها زائدة للتأكيد إذ ليس المراد أن الطلمات في نفسها لا تستوي بل تتفاوت فمن ظلمة هي أشد من أخرى مثلاً وكذا يقال فيما بعد بل المراد أن الظلمات لا تساوي النور والظل لا يساوي الحرور والأحياء لا تساوي الأموات‏.‏

وزعم ابن عطية أن دخول لا على نية التكرار كأنه قيل‏:‏ ولا الظلمات والنور ولا النور والظلمات وهكذا فاستغنى بذكر الأوائل عن الثواني ودل مذكور الكلام على متروكه، والقول بأنها مزيد لتأكيد النفي يغني عن اعتبار هذا الحذف الذي لا فائدة فيه‏.‏

وقال الإمام‏:‏ كررت لا فيما كررت لتأكيد المنافاة فالظلمات تنافي النور وتضاده والظل والحرور كذلك لأن المراد من الظل عدم الحر والبرد بخلاف الأعمى والبصير فإن الشخص الواحد قد يكون بصيراً‏.‏ ثم يعرض له العمى فلا منافاة إلا من حيث الوصف، وأما الأحياء والأموات فيهما وإن كانا كالأعمى والبصير من حيث أن الجسم الواحد قد يكون حياً ثم يعرض له الموت لكن المنافاة بين الحي والميت أتم من المنافاة بين الأعمى والبصير فإنهما قد يشتركان في إدراك أشياء ولا كذلك الحي والميت كيف والميت مخالف الحي في الحقيقة على ما تبين في الحكمة الإلهية، وقيل لم تكرر قبل وكررت بعد لأن المخاطب في أول الكلام لا يقصر في فهم المراد، وقيل كررت فيما عدا الأخير لأنه لو قيل وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات والنور مثلاً لتوهم نفي الاستواء بين مجموع الأعمى والبصير ومجموع الظلمات والنور، وفي الأخير للاعتناء وإدخال ‏{‏لا‏}‏ على المتقابلين لتذكير نفي الاستواء، وقدم الأعمى على البصير مع أن البصير أشرف لأنه إشارة إلى الكافر وهو موجود قبل البعثة والدعوة إلى الإيمان، ولنحو هذا قدم الظلمات على النور فإن الباطل كان موجوداً فدمغه الحق ببعثته عليه الصلاة والسلام، ولم يقدم الحرور على الظل ليكون على طرز ما سبق من تقديم غير الأشرف بل قدم الظل رعاية لمناسبته للعمى والظلمة من وجه أو لسبق الرحمة مع ما في ذلك من رعاية الفاصلة‏.‏

وقدم الأحياء على الأموات ولم يعكس الأمر ليوافق الأولين في تقديم غير الأشرف لأن الأحياء إشارة إلى المؤمنين بعد الدعوة والأموات إشارة إلى المصرين على الكفر بعدها ولذا قيل بعد ‏{‏إِنَّ الله يُسْمِعُ مَن يَشَاء‏}‏ الخ ووجود المصرين بوصف الأصرار بعد وجود المؤمنين، وقيل قدم ما قدم فيما عدا الأخير لأنه عدم وله مرتبة السبق وفي الأخير لأن المراد بالأموات‏.‏ فاقدو الحياة بعد الاتصاف بها كما يشعر به إرداف ذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِى القبور‏}‏ فيكون للحياة مع أنها وجوديّة رتبة السبق أيضاً، وقيل إن تقديم غير الأشرف مع انفهام أنه غير أشرف على الأشرف للإشارة إلى أن التقديم صورة لا يخل بشرف الأشرف‏.‏

فالنار يعلوها الدخان وربما *** يعلو الغبار عمائم الفرسان

وجمع الظلمات مع إفراد النور لتعدد فنون الباطل واتحاد الحق، وقيل لأن الظلمة قد تتعدد فتكون في محال قد تخلل بينهما نور والنور في هذا العالم وإن تعدد إلا أنه يتحد وراء محل تعدده، وجمع الأحياء والأموات على بابه لتعدد المشبه بهما ولم يجمع الأعمى والبصير لذلك لأن القصد إلى الجنس والمفرد أظهر فيه مع أن في البصراء ترك رعاية الفاصلة وهو على الذوق السليم دون البصير، فتدبر جميع ذلك والله تعالى أعلم بأسرار كتابه وهو العليم الخبير‏.‏

وقرأ الأشهب‏.‏ والحسن ‏{‏بِمُسْمِعٍ مَّن‏}‏ بالإضافة

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ ‏(‏23‏)‏‏}‏

‏{‏إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ‏}‏ أي ما عليك إلا أن تبلغ وتنذر فإن كان المنذر ممن أراد الله تعالى هدايته سمع واهتدى وإن كان ممن أراد سبحانه ضلاله وطبع على قلبه فما عليك منه تبعة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّا أرسلناك بالحق‏}‏ أي محقين على أنه حال من الفاعل أو محقاً على أنه حال من المفعول أو إرسالاً مصحوباً بالحق على أنه صفة لمصدر محذوف، وجوز الزمخشري تعلقه بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏بَشِيراً‏}‏ ومتعلق قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَنَذِيرًا‏}‏ محذوف لدلالة المقابل على مقابله أي بشيراً بالوعد الحق ونذيراً بالوعيد الحق‏.‏

‏{‏وَإِن مّنْ أُمَّةٍ‏}‏ أي ما من جماعة كثيرة أهل عصر وأمة من الأمم الدارجة في الأزمنة الماضية ‏{‏إِلاَّ خَلاَ‏}‏ مضى ‏{‏فِيهَا نَذِيرٌ‏}‏ من نبي أو عالم ينذرها، والاكتفاء بذكره للعلم بأن النذارة قريبة البشارة لا سيما وقد اقترنا آنفاً مع أن الإنذار أنسب بالمقام، وقيل خص النذير بالذكر لأن البشارة لا تكون إلا بالسمع فهو من خصائص الأنبياء عليهم السلام فالبشير نبي أو ناقل عنه بخلاف النذارة فإنها تكون سمعاً وعقلاً فلذا وجه النذير في كل أمة، وفيه بحث‏.‏

واستدل بعض الناس بهذه الآية مع قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا مِن دَابَّةٍ فِى الارض وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أمثالكم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 8 3‏]‏ على في البهائم وسائر الحيوانات أنبياء أو علماء ينذرون، والاستدلال بذلك باطل لا يكاد ينفي بطلانه على أحد حتى على البهائم، ولم نسمع القول بنبوة فرد من البهائم ونحوها إلا عن الشيخ محيي الدين ومن تابعه قدس الله سره، ورأيت في بعض الكتب أن القول بذلك كفر والعياذ بالله تعالى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ‏(‏25‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِن يُكَذّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ‏}‏ من الأمم العاتية فلا تحزن من تكذيب هؤلاء إياك‏.‏

‏{‏جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم‏}‏ في موضع الحال على ما قال أبو البقاء إما بدون تقدير قد أو بتقديرها أي كذب الذين من قبلهم وقد جاءتهم رسلهم ‏{‏بالبينات‏}‏ أي بالمعجزات الظاهرة الدالة على صدقهم فيما يدعون ‏{‏وبالزبر‏}‏ كصحف إبراهيم عليه السلام ‏{‏وبالكتاب المنير‏}‏ كالتوراة والإنجيل على إرادة التفصيل يعني أن بعضهم جاء بهذا وبعضهم جاء بهذا لا على إرادة الجمع وأن كل رسول جاء بجميع ما ذكر حتى يلزم أن يكون لكل رسول كتاب وعدد الرسل أكثر بكثير من عدد الكتب كما هو معروف، ومآل هذا إلى منع الخلو، ويجوز أن يراد بالزبر والكتاب واحد والعطف لتغاير العنوانين لكن فيه بعد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ‏(‏26‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ أَخَذْتُ الذين كَفَرُواْ‏}‏ وضع الظاهر موضع ضميرهم لذمهم بما حيز الصلة والإشعار بعلة الأخذ ‏{‏فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ‏}‏ أي إنكاري عليهم بالعقوبة، وفيه مزيد تشديد وتهويل وقد تقدم الكلام في نظير هذا في سبأ ‏(‏45‏)‏‏}‏ فتذكر‏.‏

وفي الآية من تسليته صلى الله عليه وسلم ما فيها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ ‏(‏27‏)‏‏}‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السماء مَاء‏}‏ الخ استئناف مسوق على ما يخطر بالبال لتقرير ما أشعر به قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَخَذْتُ الذين كَفَرُواْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 26‏]‏ من عظيم قدرته عز وجل‏.‏ وقال شيخ الإسلام‏:‏ هو لتقرير ما قبله من اختلاف الناس ببيان أن الاختلاف والتفاوت أمر مطرد في جميع المخلوقات من النبات والجماد والحيوان‏.‏

وقال أبو حيان‏:‏ تقرير لوحدانيته تعالى بأدلة سماوية وأرضية أثر تقريرها بأمثال ضربها جل شأنه، وهذا كما ترى، والاستفهام للتقرير والرؤية قلبية لأن إنزال المطر وإن كان مدركاً بالبصر لكن إنزال الله تعالى إياه ليس كذلك، والخطاب عام أي ألم تعلم أن الله تعالى أنزل من جهة العلو ماء ‏{‏فَأَخْرَجْنَا بِهِ‏}‏ أي بذلك الماء على أنه سبب عادي للإخراج، وقيل أي أخرجنا عنده، والالتفات لإظهار كمال الاعتناء بالفعل لما فيه من الصنع البديع المنبىء عن كمال القدرة والحكمة ‏{‏ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا‏}‏ أي أنواعها من التفاح والرمان والعنب والتين وغيرها مما لا يحصر، وهذا كما يقال فلان أتى بألوان من الأحاديث وقدم كذا لوناً من الطعام، واختلاف كل نوع بتعدد أصنافه كما في التفاح فإن له أصنافاً متغايرة لذة وهيئة وكذا في سائر الثمرات ولا يكاد يوجد نوع منها إلا وهو ذو أصناف متغايرة، ويجوز أن يراد اختلاف كل نوع باختلاف أفراده‏.‏

وأخرج عبد بن حميد‏.‏ وابن جرير عن قتادة أنه حمل الألوان على معناها المعروف واختلافها بالصفرة والحمرة والخضرة وغيرها، وروي ذلك عن ابن عباس أيضاً وهو الأوفق لما في قوله تعالى‏:‏

‏{‏وَمِنَ الجبال جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ‏}‏ وهو إما عطف على ما قبله بحسب المعنى أو حال وكونه استئنافاً مع ارتباطه بما قبله غير ظاهر، و‏{‏جُدَدٌ‏}‏ جمع جدة بالضم وهي الطريقة من جده إذا قطعه‏.‏

وقال أبو الفضل‏:‏ هي من الطرائق ما يخالف لونه لون ما يليه ومنه جدة الحمار للخط الذي في وسط ظهره يخالف لونه، وسأل ابن الأزرق ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن الجدد فقال طرائق طريقة بيضاء وطريقة خضراء، وأنشد قول الشاعر‏:‏

قد غادر السبع في صفحاتها جددا *** كأنها طرق لاحت على أكم

والكلام على تقدير مضاف إن لم تقصد المبالغة لأن الجبال ليست نفس الطرائق أي ذو جدد‏.‏ وقرأ الزهري ‏{‏جُدَدٌ‏}‏ بضمتين جمع جديدة كسفينة وسفن وهي بمعنى جدة‏.‏ وقال صاحب اللوامح هو جمع جديد بمعنى آثار جديدة واضحة الألوان‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ لا مدخل لمعنى الجديدة في هذه الآية‏.‏ ولعل من يقول بتجدد حدوث الجبال وتكونها من مياه تنبع من الأرض وتتحجر أولاً فأولاً ثم تنبع من موضع قريب مما تحجر فتتحجر أيضاً وهكذا حتى يحصل جبل لا يأبى حمل الآية على هذه القراءة على ما ذكر، والظاهر من الآيات والأخبار أن الجبال أحدثها الله تعالى بعيد خلق الأرض لئلا تميد بسكانها، والفلاسفة يزعمون أنها كانت طيناً في بحار انحسرت ثم تحجرت، وقد أطال الإمام الكلام على ذلك في كتابه المباحث المشرقية واستدل على ذلك بوجود أشياء بحرية كالصدف بين أجزائها، وهذا عند تدقيق النظر هباء وأكثر الأدلة مثله، ومن أراد الاطلاع على ما قالوا فليرجع إلى كتبهم‏.‏

وروي عنه أيضاً أنه قرأ ‏{‏جُدَدٌ‏}‏ بفتحتين ولم يجز ذلك أبو حاتم وقال‏:‏ إن هذه القراءة لا تصح من حيث المعنى وصححها غيره وقال‏:‏ الجدد الطريق الواضح المبين إلا أنه وضع المفرد موضع الجمع ولذا وصف بالجمع، وقيل هو من باب نطفة أمشاج وثوب أخلاق لاشتمال الطريق على قطع‏.‏

وتعب بأنه غير ظاهر ولا مناسب لجمع الجبال ‏{‏مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا‏}‏ أي أصنافها بالشدة والضعف لأنها مقولة بالتشكيك فمختلف صفة بيض وحمر، و‏{‏أَلْوَانُهَا‏}‏ فاعل له وليس بمبتدأ، و‏{‏مُّخْتَلِفٍ‏}‏ خبره لوجوب مختلفة حينئذٍ، وجوز أن يكون صفة ‏{‏جُدَدٌ‏}‏ ‏{‏وَغَرَابِيبُ‏}‏ عطف على ‏{‏بَيْضٌ‏}‏ فهو من تفاصيل الجدد والصفات القائمة بها أي ومن الجبال ذو جدد بيض وحمر، وغرابيب والغربيب هو الذي أبعد في السواد وأغرب فيه ومنه الغراب، وكثر في كلامهم اتباعه للأسود على أنه صفة له أو تأكيد لفظي فقالوا أسود غربيب كما قالوا أبيض يقق وأصفر فاقع وأحمر قاني‏.‏

وظاهر كلام الزمخشري أن ‏{‏غرابيب‏}‏ هنا تأكيد لمحذوف والأصل وسود غرابيب أي شديدة السواد‏.‏

وتعقب بأنه لا يصح إلا على مذهب من يجوز حذف المؤكد ومن النحاة من منع ذلك وهو اختيار ابن مالك لأن التأكيد يقتضي الاعتناء والتقوية وقصد التطويل والحذف يقتضي خلافه‏.‏ ورده الصفار كما في شرح التسهيل لأن المحذوف لدليل كالمذكور فلا ينافي تأكيده، وفي بعض شروح المفصل أنه صفة لذلك المحذوف أقيم مقامه بعد حذفه، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَغَرَابِيبُ سُودٌ‏}‏ بدل منه أو عطف بيان له وهو مفسر للمحذوف، ونظير ذلك قول النابغة‏:‏

والمؤمن العائذات الطير يمسحها *** ركبان مكة بين الغيل والسند

وفيه التفسير بعد الإبهام ومزيد الاعتناء بوصف السواد حيث دل عليه من طريق الإضمار والإظهار‏.‏

ويجوز أن يكون العطف على ‏{‏جُدَدٌ‏}‏ على معنى ومن الجبال ذو جدد مختلف اللون ومنها غرابيب متحدة اللون كما يؤذن به المقابلة وإخراج التركيب على الأسلوب الذي سمعته، وكأنه لما اعتنى بأمر السواد بإفادة أنه في غاية الشدة لم يذكر بعده الاختلاف بالشدة والضعف‏.‏

وقال الفراء‏:‏ الكلام على التقديم والتأخير أي سود غرابيب، وقيل ليس هناك مؤكد ولا موصوف محذوف وإنما ‏{‏غرابيب‏}‏ معطوف على ‏{‏الجبال جُدَدٌ‏}‏ أو على بيض من أول الأمر و‏{‏سُودٌ‏}‏ بدل منه، قال في «البحر»‏:‏ وهذا حسن ويحسنه كون غربيب لم يلزم فيه أن يستعمل تأكيداً، ومنه ما جاء في الحديث إن الله تعالى يبغض الشيخ الغربيب وهو الذي يخضب بالسواد، وفسره ابن الأثير بالذي لا يشيب أي لسفاهته أو لعدم اهتمامه بأمر آخرته، وحكي ما في «البحر» بصيغة قيل، وقول الشاعر‏:‏

العين طامحة واليد شامخة *** والرجل لائحة والوجه غربيب

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ‏(‏28‏)‏‏}‏

‏{‏وَمِنَ الناس والدواب والانعام مُخْتَلِفٌ ألوانه‏}‏ أي ومنهم بعض مختلف ألوانه أو بعضهم مختلف ألوانه على ما ذكروا في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ ءامَنَّا بالله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 8‏]‏ والجملة عطف على الجملة التي قبلها وحكمها حكمها‏.‏

وفي إرشاد العقل السليم أن إيراد الجملتين اسميتين مع مشاركتهما لما قبلهما من الجملة الفعلية في الاستشهاد بمضمونها على تباين الناس في الأحوال الباطنة لما أن اختلاف الجبال والناس والدواب والأنعام فيما ذكر من الألوان أمر مستمر فعبر عنه بما يدل على الاستمرار وأما إخراج الثمرات المختلفة فحيث كان أمراً حادثاً عبر عنه بما يدل على الحدوث ثم لما كان فيه نوع خفاء علق به الرؤية بطريق الاستفهام التقريري المنبىء عن الحمل عليها والترغيب فيهاب خلاف أحوال الجبال والناس وغيرهما فإنها مشاهدة غنية عن التأمل فلذلك جردت عن التعليق بالرؤية فتدبر اه، وما ذكره من أمر تعليق الرؤية مخالف لما في «البحر» حيث قال‏:‏ وهذا استفهام تقرير ولا يكون إلا في الشيء الظاهر جداً فتأمل‏.‏

وقرأ الزهري ‏{‏والدواب‏}‏ بتخفيف الباء مبالغة في الهرب من التقاء الساكنين كما همز بعضهم ‏{‏وَلاَ الضالين‏}‏ لذلك‏.‏

وقرأ ابن السميقع ‏{‏أَلْوَانُهَا‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك‏}‏ في محل نصب صفة لمصدر مختلف المؤكد والتقدير مختلف اختلافاً كائناً كذلك أي كاختلاف الثمرات والجبال فهو من تمام الكلام قبله والوقف عليه حسن بإجماع أهل الأداء وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء‏}‏ تكملة لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا تُنذِرُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بالغيب‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 8 1‏]‏ بتعيين من يخشاه عز وجل من الناس بعد الإيماء إلى بيان شرف الخشية ورداءة ضدها وتوعد المتصفين به وتقرير قدرته عز وجل المستدعي للخشية على ما نقول أو بعد بيان اختلاف طبقات الناس وتباين مراتبهم أما في الأوصاف المعنوية فبطريق التمثيل وأما في الأوصاف الصورية فبطريق التصريح توفية لكل واحدة منهما حقها اللائق بها من البيان، وقيل ‏{‏كذلك‏}‏ في موضع رفع خبر مبتدأ محذوف أي الأمر كذلك أي كما بين ولخص ثم قيل‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يَخْشَى الله‏}‏ الخ وسلك به مسلك الكناية من باب العرب لا تخفر الذمم دلالة على أن العلم يقتضي الخشية ويناسبها وهو تخلص إلى ذكر أوليائه تعالى مع إفادة أنهم الذين نفع فيهم الإنذار وأن لك بهم غنية عن هؤلاء المصرين، قال صاحب الكشف‏:‏ والرفع أظهر ليكون من فصل الخطاب‏.‏

وقال ابن عطية يحتمل أن يكون ‏{‏كذلك‏}‏ متعلقاً بما بعده خارجاً مخرج السبب أي كذلك الاعتبار والنظر في مخلوقات الله تعالى واختلاف ألوانها يخشى الله العلماء، ورده السمين بأن إنما لا يعمل ما بعده فيما قبلها وبأن الوقف على كذلك عند أهل الأداء جميعاً، وارتضاه الخفاجي وقال‏:‏ وبه ظهر ضعف ما قيل إن المعنى الأمر كذلك أي كما بين ولخص على أنه تخلص لذكر أولياء الله تعالى، وفيه أنه ليس في هذا المعنى عمل ما بعد إنما فيما قبلها وإجماع أهل الأداء على الوقف على ‏{‏كذلك‏}‏ إن سلم لا يظهر به ضعف ذلك، وفي بعض التفاسير المأثورة عن السلف ما يشعر بتعلق ‏{‏كذلك‏}‏ بما بعده‏.‏

أخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال في الآية كما اختلفت هذه الأنعام تختلف الناس في خشية الله تعالى كذلك وهذا عندي ضعيف واوظهر ما عليه الجمهور وما قيل أدق وألطف، والمراد بالعلماء العالمون بالله عز وجل وبما يليق به من صفاته الجليلة وأفعاله الحميدة وسائر شؤونه الجميلة لا العارفون بالنحو والصرف مثلاً فمدار الخشية ذلك العلم لا هذه المعرفة فكل من كان أعلم به تعالى كان أخشى‏.‏ روى الدارمي عن عطاء قال‏:‏ قال موسى عليه السلام يا رب أي عبادك أحكم‏؟‏ قال الذي يحكم للناس كما يحكم لنفسه قال‏:‏ يا رب أي عبادك أغنى‏؟‏ قال‏:‏ أرضاهم بما قسمت له قال‏:‏ يا رب أي عبادك أخشى‏؟‏ قال‏:‏ أعلمهم بي‏.‏ وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «أنا أخشاكم لله وأتقاكم له» ولكونه المدار ذكرت الخشية بعدما يدل على كمال القدرة، ولهذه المناسبة فسر ابن عباس كما أخرج عنه ابن المنذر‏.‏ وابن جرير ‏{‏العلماء‏}‏ في الآية بالذين يعلمون أن الله تعالى على كل شيء قدير، وتقديم المفعول لأن المقصود بيان الخاشين والإخبار بأنهم العلماء خاصة دون غيرهم ولو أخر لكان المقصود بيان المخشي والإخبار بأنه الله تعالى دون غيره كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ الله‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 9 3‏]‏ والمقام لا يقتضيه بل يقتضي الأول ليكون تعريضاً بالمنذرين المصرين على الكفر والعناد وأنهم جهلاء بالله تعالى وبصفاته ولذلك لا يخشون الله تعالى ولا يخافونه عقابه‏.‏

وأنكر بعضهم إفادة ‏{‏إِنَّمَا‏}‏ هنا للحصر وليس بشيء، وروي عن عمر بن عبد العزيز‏.‏ وأبي حنيفة رضي الله تعالى عنهما أنهما قرءا ‏{‏إِنَّمَا يَخْشَى الله‏}‏ بالرفع ‏{‏العلماء‏}‏ بالنصب وطعن صاحب النشر في هذه القراءة، وقال أبو حيان‏:‏ لعلها لا تصح عنهما، وقد رأينا كتباً في الشواذ ولم يذكروا هذه القراءة وإنما ذكرها الزمخشري وذكرها عن أبي حيوة أبو القاسم يوسف بن علي بن جنادة في كتابه الكامل وخرجت على أن الخشية مجاز عن التعظيم بعلاقة اللزوم فإن المعظم يكون مهيباً، وقيل الخشية ترد بمعنى الاختيار كقوله‏:‏

خشيت بني عمي فلم أر مثلهم *** ‏{‏إِنَّ الله عَزِيزٌ غَفُورٌ‏}‏ تعليل لوجوب الخشية لأن العزة دالة على كمال القدرة على الانتقام ولا يوصف بالمغفرة والرحمة إلا القادر على العقوبة، وقيل ذكر ‏{‏غَفُورٌ‏}‏ من باب التكميل نظير ما في بيت الغنوي المذكور آنفاً‏.‏

والآية على ما في بعض الآثار نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وقد ظهرت عليه الخشية حتى عرفت فيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الذين يَتْلُونَ كتاب الله‏}‏ أي يداومون على قراءته حتى صارت سمة لهم وعنواناً كما يشعر به صيغة المضارع ووقوعه صلة واختلاف الفعلين والمراد بكتاب الله القرآن فقد قال مطرف بن عبد الله بن الشخير‏:‏ هذه آية القراء‏.‏

وأخرج عبد الغني بن سعيد الثقفي في تفسيره عن ابن عباس أنها نزلت في حصين بن الحرث بن عبد المطلب القرشي، ثم إن العبرة بعموم اللفظ فلذا قال السدي في التالين‏:‏ هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال عطاء‏:‏ هم المؤمنون أي عامة وهو الأرجح ويدخل الأصحاب دخولاً أولياً، وقيل معنى يتلون كتاب الله يتبعونه فيعملون بما فيه، وكأنه جعل يتلو من تلاه إذا تبعه أو حمل التلاوة المعروفة على العمل لأنها ليس فيها كثير نفع دونه، وقد ورد «رب قارىء للقرآن والقرآن يلعنه» ويشعر كلام بعضهم باختيار المعنى المتبادر حيث قال‏:‏ إنه تعالى لما ذكر الخشية وهي عمل القلب ذكر بعدها عمل اللسان والجوارح والعبادة المالية، وجوز أن يراد بكتاب الله تعالى جنس كتبه عز وجل الصادق على التوراة والإنجيل وغيرهما فيكون ثناء على المصدقين من الأمم بعد اقتصاص حال المكذبين بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن يُكَذّبُوكَ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 25‏]‏ الخ والمضارع لحكاية الحال الماضية، والمقصود من الثناء عليهم وبيان ما لهم حث هذه الأمة على اتباعهم وأن يفعلوا نحو ما فعلوا، والوجه الأول أوجه كما لا يخفى وعليه الجمهور‏.‏

‏{‏وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابتغاء وَجْهِ رَبّهِمْ وَأَقَامُواْ الصلاة‏}‏ أي مسرين ومعلنين وفي سر وعلانية، والمراد ينفقون كيفما اتفق من غير قصد إليهما، وقيل السر في الإنفاق المسنون والعلانية في الإنفاق المفروض، وفي كون الإنفاق مما رزقوا إشارة إلى أنهم لم يسرفوا ولم يبسطوا أيديهم كل البسط، ومقام التمدح مشعر بأنهم تحروا الحلال الطيب؛ وقيل جىء بمن لذلك، والمعتزلة يخصون الرزق بالحلال وهو أنسب بإسناد الفعل إلى ضمير العظمة، ومن لا يخصه بالحلال يقول هو التعظيم والحث على الإنفاق ‏{‏يَرْجُونَ‏}‏ بما آتوا من الطاعات ‏{‏تجارة‏}‏ أي معاملة مع الله تعالى لنيل ربح الثواب على أن التجارة مجاز عما ذكر ‏{‏والقرينة‏}‏ حالية كما قال بعض الأجلة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تجارة لَّن تَبُورَ‏}‏ أي لن تكسد، وقيل لن تهلك بالخسران صفة تجارة وترشيخ للمجاز، وجملة ‏{‏يَرْجُونَ‏}‏ الخ على ما قال الفراء‏.‏ وأبو البقاء خبر إن، وفي إخباره تعالى عنهم بذلك إشارة إلى أنهم لا يقطعون بنفاق تجارتهم بل يأتون ما آتوا من الطاعات وقلوبهم وجلة أن لا يقبل منهم، وجعل بعضهم التجارة مجازاً عن تحصيل التواب بالطاعة وأمر الترشيح على حاله وإليه ذهب أبو السعود ثم قال‏:‏ والإخبار برجائهم من أكرم الأكرمين عدة قطعية بحصول مرجوهم‏.‏

وظاهر ما روي عن قتادة من تفسيره التجارة بالجنة أنها مجاز عن الربح وفسر ‏{‏لَّن تَبُورَ‏}‏ بلن تبيد وهو كما ترى، وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ‏(‏30‏)‏‏}‏

‏{‏لِيُوَفّيَهُمْ أُجُورَهُمْ‏}‏ متعلق عند بعض بما دل عليه ‏{‏لن‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 29‏]‏ تعلق ‏{‏بِنِعْمَةِ رَبّكَ‏}‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبّكَ بِمَجْنُونٍ‏}‏ بما دل علي ما لا بالحرف إذ لا يتعلق الجار به على المشهور أي ينتفي الكساد عنها وتنفق عند الله تعالى ليوفيهم أجور أعمالهم ‏{‏وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ‏}‏ على ذلك من خزائن رحمته ما يشاء وعن أبي وائل زيادته تعالى إياهم بتشفيعهم فيمن أحسن إليهم‏.‏

وقال الضحاك‏:‏ بتفسيح القلوب، وفي الحديث بتضعيف حسناتهم، وقيل بالنظر إلى وجهه تعالى الكريم‏.‏

والظاهر أن ‏{‏مِن فَضْلِهِ‏}‏ راجع لما عنده ففيه إشارة إلى أن توفية أجورهم كالواجب لكونه جزاء لهم بوعده سبحانه ويجوز أن يكون راجعاً إليهما أو متعلق بمقدر يدل عليه ما قبله وهو ما عد من أفعالهم المرضية أي فعلوا ذلك ليوفيهم أجورهم الخ، وجوز تعلقه بما قبله على التنازع وصنيع أبي البقاء يشعر باختيار تعلقه بيرجون وجعل اللام عليه لام الصيرورة‏.‏ ويعقب بأنه لا مانع من جعلها لام العلة كما هو الشائع الكثير ولا يظهر للعدول عنه وجه‏.‏

ووجه ذلك الطيبي بأن غرضهم فيما فعلوا لم يكن سوى تجارة غير كاسدة لأن صلة الموصول هنا علة وإيذان بتحقق الخبر ولما أدى ذلك إلى أن وفاهم الله تعالى أجورهم أتى باللام، وإنما لم يذهب إليه بعض الأجلة كالزمخشري لأن هذه اللام لا توجد إلا فيما يترتب الثاني الذي هو مدخولها على الأول ولا يكون مطلوباً نحو تعالى‏:‏ ‏{‏فالتقطه ءالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 8‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ‏}‏ تعليل لما قبله من التوفية والزيادة عند الكثير أي غفور لفرطات المطيعين شكور لطاعاتهم أي مجازيهم عليها أكمل الجزاء فيوفى هؤلاء أجورهم ويزيدهم من فضله، وجوز أن يكون خبراً بعد خبر والعائد محذوف أي لهم، وجوز أن يكون هو الخبر بتقدير العائد وجملة ‏{‏يَرْجُونَ‏}‏ حال من ضمير ‏{‏أَنفَقُواْ‏}‏ بناءً على أن القيد المتعقب لأمور متعددة يختص بالأخير كما هو مذهب أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أو على أن رجاء التجارة النافقة أوفق بالإنفاق أو من مقدر أي فعلوا جميع ذلك راجين‏.‏

واستظهره الطيبي، والجملة عليه معترضة فلا يرد أن فيه الفصل بين المبتدأ أو خبره بأجنبي، وجوز أن يكون حالاً من ضمير ‏{‏الذين‏}‏ على سبيل التنازع، ولم يشتهر التنازع في الحال وأنا لا أرى فيه بأساً، واستظهر بعض المعاصرين جعل الجملة المذكورة حالاً من ضمير ‏{‏أَنفَقُواْ‏}‏ لقربه وشدة الملاءمة بين الإنفاق ورجاء تجارة لها نفاق ولا يبعد أن يكون قد حذف فيما تقدم نظيرها لدلالتها عليه وجعل ‏{‏لِيُوَفّيَهُمْ‏}‏ متنازعاً فيه للأفعال الثلاثة المتعاطفة أو جعل الجملة حالاً من مقدر كما سمعت آنفاً و‏{‏لِيُوَفّيَهُمْ‏}‏ متعلقاً بيرجون وجملة ‏{‏إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ‏}‏ خير المبتدأ والرابط محذوف وفي جملة ‏{‏يَرْجُونَ‏}‏ الخ احتمال الاستعارة التمثيلية ولو على بعد ولم أر من أشار إليه فتدبر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ ‏(‏31‏)‏‏}‏

‏{‏والذى أَوْحَيْنَا عِلْمٌ مّنَ الكتاب‏}‏ وهو القرآن، و‏{‏مِنْ‏}‏ للتبيين إذ القرآن أخص من الذي أوحينا مفهوماً وإن اتحدا ذاتاً أو جنس الكتاب ومن للتبعيض إذ المراد من ‏{‏الذى أَوْحَيْنَا‏}‏ هو القرآن وهو بعض جنس الكتاب، وقيل هو اللوح ومن للابتداء ‏{‏هُوَ الحق‏}‏ إذا كان المراد الحصر فهو من قصر المسند إليه على المسند لا العكس لعدم استقامة المعنى إلا أن يقصد المبالغة قاله الخفاجي والمتبادر الشائع في أمثاله قصر المسند على المسند إليه وهو ههنا إن لم تقصد المبالغة قصر إضافي بالنسبة إلى ما يفتريه أهل الكتاب وينسبونه إلى الله تعالى‏.‏

‏{‏مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ‏}‏ أي لما تقدمه من الكتب السماوية ونصب ‏{‏مُصَدّقاً‏}‏ على الحالية والعامل فيه مقدر يفهم من مضمون الجملة قبله أي أحققه مصدقاً وهو حال مؤكدة لأن حقيته تستلزم موافقته الكتب الإلهية المتقدمة عليه بالزمان في العقائد وأصول الأحكام، واللام للتقوية ‏{‏إِنَّ الله بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ‏}‏ محيط ببواطن أمورهم وظواهرها فلو كان في أحوالك ما ينافي النبوة لم يوح إليك مثل هذا الحق المعجز الذي هو عيار على سائر الكتب، وتقديم ‏{‏الخبير‏}‏ للتنبيه على أن العمدة هي الأمور الروحانية، وإلى ذلك أشار صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏ «إن الله لا ينظر إلى أعمالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم»‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏

‏{‏ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ‏(‏32‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب‏}‏ أي القرآن كما عليه الجمهور، والعطف قيل على ‏{‏الذى أَوْحَيْنَا‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 31‏]‏ وقيل على ‏{‏أَوْحَيْنَا‏}‏ بإقامة الظاهر مقام الضمير العائد على الموصول، واستظهر ذلك بالقرب وتوافق الجملتين أي ثم أعطيناه من غير كد وتعب في طلبه ‏{‏الذين عَبْدًا مّنْ عِبَادِنَا‏}‏ وهم كما قال ابن عباس‏.‏ وغيره أمة محمد صلى الله عليه وسلم فإن الله تعالى اصطفاهم على سائر الأمم وجعلهم أمة وسطاً ليكونوا شهداء على الناس وخصهم بالانتماء إلى أكرم رسله وأفضلهم عليهم الصلاة والسلام، و‏{‏ثُمَّ‏}‏ للتراخي الرتبي فإن إيحاء الكتاب إليه صلى الله عليه وسلم أشرف من الإيراث المذكور كأنه كالعلة له وبه تحققت نبوته عليه الصلاة والسلام التي هي منبع كل خير وليست للتراخي الزماني إذ زمان إيحائه إليه عليه الصلاة والسلام هو زمان إيراثه، وإعطائه أمته بمعنى تخصيصه بهم وجعله كتابهم الذي إليه يرجعون وبالعمل بما فيه ينتفعون، وإذا أريد بإيراثه إياهم إيراثه منه صلى الله عليه وسلم وجعلهم منتفعين به فاهمين ما فيه بالذات كالعلماء أو بالواسطة كغيرهم بعده عليه الصلاة والسلام فهي للتراخي الزماني، والتعبير عن ذلك بالماضي لتحققه، وجوز أن يكون معنى ‏{‏أَوْرَثْنَا الكتاب‏}‏ حكمنا بإيراثه وقدرناه على أنه مجاز من إطلاق السبب على المسبب فتكون ثم للتراخي الرتبي وإلا فزمان الحكم سابق على زمان الإيحاء‏.‏

ووجه التعبير بالماضي عليه ظاهر‏.‏ وفي شرح الرضي أن ثم قد تجىء في عطف الجمل خاصة لاستبعاد مضمون ما بعدها عن مضمون ما قبلها وعدم مناسبته له كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏استغفروا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 3‏]‏ فإن بين توبة العباد وهي انقطاع العبد إليه تعالى بالكلية وبين طلب المغفرة بونا بعيداً وهذا المعنى فرع التراخي ومجازه اه‏.‏

وابن الشيخ جعل ما هنا كما في هذه الآية، وجوز أن يكون ‏{‏ثُمَّ أَوْرَثْنَا‏}‏ الخ متصلاً بما سبق من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا أرسلناك بالحق بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِن مّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 4 2‏]‏ والمراد ثم أورثنا الكتاب من الأمم السالفة وأعطيناه بعدهم الذين اصطفيناهم من الأمة المحمدية، والكتاب القرآن كما قيل ‏{‏وَإِنَّهُ لَفِى زُبُرِ الاولين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 196‏]‏ وقيل لا يحتاج إلى اعتبار ذلك ويجعل المعنى ثم أخرنا القرآن عن الأمم السالفة وأعطيناه هذه الأمة، ووجه النظم أنه تعالى قدم إرساله في كل أمة رسولاً وعقبه بما ينبىء أن تلك الأمم تفرقت حزبين حزب كذبوا الرسل وما أنزل معهم وهم المشار إليهم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَقَدْ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 5 2‏]‏ وحزب صدقوهم وتلوا كتاب الله تعالى وعملوا بمقتضاه وهم المشار إليهم بقوله سبحانه‏:‏

‏{‏إِنَّ الذين يَتْلُونَ كتاب الله وَأَقَامُواْ الصلاة‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 9 2‏]‏ الخ وبعد أن أثنى سبحانه على التالين لكتبه العاملين بشرائعه من بين المكذبين بها من سائر الأمم جاء بما يختص برسوله صلى الله عليه وسلم من قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏والذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الكتاب‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 31‏]‏ الخ استطراداً معترضاً ثم أخبر سبحانه بإيراثه هذا الكتاب الكريم هذه الأمة بعد إعطاء تلك الأمم الزبر والكتاب المنير، وعلى هذا يكون المعنى في ‏{‏أَوْرَثْنَا‏}‏ على ظاهره، وثم للتراخي في الأخبار أو للتراخي في الرتبة إيذاناً بفضل هذا الكتاب على سائر الكتب وفضل هذه الأمة على سائر الأمم، وفي هذا الوجه حمل الكتاب في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين يَتْلُونَ كتاب الله‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 29‏]‏ على الجنس وجعل الآية ثناء على الأمم المصدقين بعد اقتصاص حال المكذبين منهم، فإن دفع ما فيه فهو من الحسن بمكان‏.‏ وجوز أن يكون عذفاً على ‏{‏إِنَّ الذين يَتْلُونَ كتاب الله‏}‏ وإذا كان إيراث الكتاب سابقاً على تلاوته فالمعنى على ظاهره وثم للتفاوت التربي أو للتراخي في الأخبار ‏{‏والذى أَوْحَيْنَا‏}‏ الخ اعتراض لبيان كيفية الإيراث لأنه إذا صدقها بمطابقته لها في العقائد والأصول كان كأنه هي وكأنه انتقل إليهم ممن سلف، وهو كما ترى، وجوز على هذا وما قبله أن يراد بالكتاب الجنس؛ ولا يخفى أن إرادة القرآن هو الظاهر، وقيل المراد بالمصطفين علماء الأمة من الصحابة ومن بعدهم ممن يسير بسيرتهم وإيراثهم القرآن جعلهم فاهمين معناه واقفين على حقائقه ودقائقه أمناء على أسراره‏.‏

وروى الإمامية عن الصادق والباقر رضي الله تعالى عنهما أنهما قالا‏:‏ هي لنا خاصة وإيانا عني أرادا أن أهل البيت أو الأئمة منهم هم المصطفون الذين أورثوا الكتاب، واختار هذا الطبرسي الإمامي قال في تفسيره «مجمع البيان»‏:‏ وهذا أقرب الأقوال لأنهم أحق الناس بوصف الاصطفاء والاجتباء وإيراث علم الأنبياء عليهم السلام‏.‏

وربما يستأنس له بقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏"‏ إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله تعالى وعترتي لن يفترقا حتى يردا على الحوض ‏"‏ وحملهم على علماء الأمة أولى من هذا التخصيص ويدخل فيهم علماء أهل البيت دخولاً أولياً ففي بيتهم نزل الكتاب ولن يفترقا حتى يردا الحوض يوم الحساب، وإذا كانت الإضافة في ‏{‏عِبَادِنَا‏}‏ للتشريف واختص العباد بمؤمني هذه الأمة وكانت من للتبعيض كأن حمل المصطفين على العلماء كالمتعين، وعن الجبائي أنهم الأنبياء عليهم السلام اختارهم الله تعالى وحباهم برسالته وكتبه، وعليه يكون تعريف الكتاب للجنس والعطف على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الكتاب هُوَ الحق‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 1 3‏]‏ وثم للتراخي في الأخبار، أخبر سبحانه أولاً عما أوتيه نبينا صلى الله عليه وسلم وهو متضمن للاخبار بإيتائه عليه الصلاة والسلام الكتاب على أكمل وجه ثم أخبر سبحانه بتوريث إخوانه الأنبياء عليهم السلام وإيتائهم الكتب، ومما يرد عليه أن إيتاء الأنبياء عليهم السلام الكتب قد علم قبل من قوله تعالى‏:‏

‏{‏فَقَدْ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 5 2‏]‏‏.‏

وعن أبي مسلم أنهم المصطفون المذكورون في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله اصطفى آدَمَ وَنُوحًا وَءالَ إبراهيم وَءالَ عمران عَلَى العالمين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 33‏]‏ وهو دون ما قبله، وأياً ما كان فالموصول مفعول أول لأورثنا، و‏{‏الكتاب‏}‏ مفعول ثان له قدم لشرفه والاعتناء به وعدم اللبس، ومن للبيان أو للتبعيض ‏{‏فَمِنْهُمْ ظالم لّنَفْسِهِ‏}‏ الفاء للتفصيل لا للتعليل كما قيل؛ وضمير الجمع على ما سمعت أولاً في تفسير الموصول للموصول، والظالم لنفسه من قصر في العمل بالكتاب وأسرف على نفسه وهو صادق على من ظلم غيره لأنه بذلك ظالم لنفسه والمشهور مقابلته بالظلم لغيره، واللام للتقوية‏.‏

‏{‏وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ‏}‏ يتردد بين العمل به ومخالفته فيعمل تارة ويخالف أخرى، وأصل معنى الاقتصاد التوسط في الأمر ‏{‏وَمِنْهُمْ سَابِقٌ‏}‏ متقدم إلى ثواب الله تعالى وجنته ‏{‏بالخيرات‏}‏ أي بسبب الخيرات أي الأعمال الصالحة، وقيل‏:‏ سابق على الظالم لنفسه والمقتصد في الدرجات بسبب الخيرات، وقيل‏:‏ أي محرز الفضل بسببها ‏{‏بِإِذُنِ الله‏}‏ أي بتيسيره تعالى وتوفيقه عز وجل؛ وفيه تنبيه على عزة منال هذه الرتبة وصعوبة مأخذها، وفسر بمن غلبت طاعته معاصيه وكثر عمله بكتاب الله تعالى، وما ذكر في تفسير الثلاثة مما يشير إليه كلام الحسن فقد روى عنه أنه قال‏:‏ الظالم من خفت حسناته والمقتصد من استوت والسابق من رجحت، ووراء ذلك أقوال كثيرة فقال معاذ‏:‏ الظالم لنفسه الذي مات على كبيرة لم يتب منها والمقتصد من مات على صغيرة ولم يصب كبيرة لم يتب منها والسابق من مات تائباً من كبيرة أو صغيرة أو لم يصب ذلك، وقيل الظالم لنفسه العاصي المسرف والمقتصد متقي الكبائر والسابق المتقي على الإطلاق، وقيل الأول المقصر في العمل والثاني العامل بالكتاب في أغلب الأوقات ولم يخل عن تخليط والثالث السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار‏.‏

وقيل الأولان كما ذكر والثالث المداوم على إقامة مواجب الكتاب علماً وعملاً وتعليماً، وقيل‏:‏ الأول من أسلم بعد الفتح والثاني من أسلم قبله والثالث من أسلم قبل الهجرة، وقيل‏:‏ هم من لا يبالي من أين ينال ومن قوته من الحلال ومن يكتفي من الدنيا بالبلاغ، وقيل‏:‏ من همه الدنيا ومن همه العقبى ومن همه المولى، وقيل‏:‏ طالب النجاة وطالب الدرجات وطالب مناجاة، وقيل‏:‏ تارك الزلة وتارك الغفلة وتاركة العلاقة، وقيل‏:‏ من شغله معاشه عن معاده ومن شغله بهما ومن شغله معاده عن معاشه وقيل‏:‏ من يأتي بالفرائض خوفاً من النار ومن يأتي بها خوفاً منها ورضاً واحتساباً ومن يأتي بها رضاً واحتساباً فقط، وقيل‏:‏ الغافل عن الوقت والجماعة والمحافظ على الوقت دون الجماعة والمحافظ عليهما، وقيل‏:‏ من غلبت شهوته عقله ومن تساويا ومن غلب عقله شهوته، وقيل‏:‏ من لا ينهى عن المنكر ويأتيه ومن ينهى عن المنكر ويأتيه ومن يأمر بالمعروف ويأتيه، وقيل‏:‏ دو الجور وذو العدل وذو الفضل، وقيل‏:‏ ساكن البادية والحاضرة والمجاهد، وقيل‏:‏ من كان ظاهره خيراً من باطنه ومن استوى باطنه وظاهره ومن باطنه خير من ظاهره‏.‏

وقيل‏:‏ التالي للقرآن غير العالم به ولا العامل بموجبه والتالي العالم غير العامل والتالي العالم العامل، وقيل‏:‏ الجاهل والمتعلم والعالم، وقيل‏:‏ من خالف الأوامر وارتكب المناهي ومن اجتهد في أداء التكاليف وإن لم يوفق لذلك ومن لم يخالف تكاليف الله تعالى‏.‏

وروى بعض الإمامية عن ميسر بن عبد العزيز عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه الظالم لنفسه منا من لا يعرف حق الإمام والمقتصد العارف بحق الإمام والسابق هو الإمام، وعن زياد بن المنذر عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه الظالم لنفسه منا من عمل صالحاً وآخر سيئاً والمقتصد المتعبد المجتهد والسابق بالخيرات علي‏.‏ والحسن‏.‏ والحسين رضي الله تعالى عنهم‏.‏ ومن قتل من آل محمد شهيداً، وقيل‏:‏ هم الموحد بلسانه الذي تخالف جوارحه والموحد الذي يمنع جوارحه بالتكليف والموحد الذي ينسيه التوحيد غير التوحيد، وقيل‏:‏ من يدخل الجنة بالشفاعة ومن يدخلها بفضل الله تعالى ومن يدخلها بغير حساب، وقيل‏:‏ من أوتي كتابه من وراء ظهره ومن أوتي كتابه بشماله ومن أوتي كتابه بيمينه، وقيل‏:‏ الكافر مطلقاً والفاسق والمؤمن التقي، وفي معناه ما جاء في رواية عن ابن عباس‏.‏ وقتادة‏.‏ وعكرمة الظالم لنفسه أصحاب المشأمة والمقتصد أصحاب الميمنة والسابق بالخيرات السابقون المقربون، والظاهر أن هؤلاء ومن قال نحو قولهم يجعلون ضمير ‏{‏مِنْهُمْ‏}‏ للعباد لا للموصول ولا شك أن منهم الكافر وغيره وكون العباد المضاف إلى الله تعالى مخصوصاً بالمؤمنين ليس بمطرد وإنما يكون كذلك إذا قصد بالإضافة التشريف، والقول برجوع الضمير للموصول والتزام كون الاصطفاء بحسب الفطرة تعسف كما لا يخفى، وقيل‏:‏ في تفسير الثلاثة غير ما ذكر، وذكر في التحرير ثلاثة وأربعين قولاً في ذلك، ومن تتبع التفاسير وجدها أكثر من ذلك لكن لا يجد في أكثرها كثير تفاوت، والذي يعضده معظم الروايات والآثار أن الأصناف الثلاثة من أجل الجنة فلا ينبغي أن يلتفت إلى تفسير الظالم بالكافر إلا بتأويل كافر النعمة وإرادة العاصي منه‏.‏

أخرج الإمام أحمد‏.‏ والطيالسي‏.‏ وعبد بن حميد‏.‏ وابن جرير‏.‏ وابن المنذر‏.‏ وابن أبي حاتم‏.‏ وابن مردويه‏.‏ والبيهقي‏.‏ والترمذي وحسنه عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في هذه الآية‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب إلى الخَيْرَاتِ‏}‏ هؤلاء بمنزلة واحدة وكلهم في الجنة، وقوله عليه الصلاة والسلام وكلهم الخ عطف تفسيري‏.‏

وأخرج الطبراني‏.‏ وابن مردويه في البعث عن أسامة بن زيد أنه قال في الآية‏:‏ ‏"‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم من هذه الأمة وكلهم في الجنة» وأخرج ابن النجار عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «سابقنا سابق ومقتصدنا ناج وظالمنا مغفور له ‏"‏ وأخرج العقيلي‏.‏ وابن مردويه‏.‏ والبيهقي عن عمر بن الخطاب مرفوعاً نحوه‏.‏

وأخرج الإمام أحمد‏.‏ وعبد بن حميد‏.‏ وابن جرير‏.‏ وابن المنذر‏.‏ وابن أبي حاتم‏.‏ والطبراني‏.‏ والحاكم‏.‏ وابن مردويه‏.‏ والبيهقي عن أبي الدرداء قال‏:‏ ‏"‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله‏}‏ فأما الذين سبقوا فأولئك يدخلون الجنة بغير حساب وأما الذين اقتصدوا فأولئك الذين يحاسبون حساباً يسيراً وأما الذين ظلموا أنفسهم فأولئك يحبسون في طول المحشر ثم هم الذين يتلقاهم الله تعالى برحمته فهم الذين يقولون ‏{‏الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 34‏]‏ ‏"‏ الآية قال البيهقي‏:‏ إذا كثرت الروايات في حديث ظهر أن للحديث أصلاً، والاخبار في هذا الباب كثيرة وفيما ذكر كفاية، وقدم الظالم لنفسه لكثرة الظالمين لأنفسهم وعقب بالمقتصد لقلة المقتصدين بالنسبة إليهم وأخر السابق لأن السابقين أهل من القليل قاله الزمخشري، وحكى الطبرسي أن هذا الترتيب على مقامات الناس فإن أحوال العباد ثلاث معصية ثم توبة ثم قربة فإذا عصى العبد فهو ظالم فإذا تاب فهو مقتصد فإذا صحت توبته وكثرت مجاهدته فهو سابق، وقيل‏:‏ قدم الظالم لئلا ييأس من رحمة الله تعالى وأخر السابق لئلا يعجب بعمله فتعين توسيط المقتصد، وقال قطب الدين‏:‏ النكتة في تقديم الظالم أنه أقرب الثلاثة إلى بداية حال العبد قبل اصطفائه بإيراث الكتاب فإذا باشره الاصطفاء فمن العباد من يتأثر قليلاً وهو الظالم لنفسه ومنهم من يتأثر تأثراً وسطاً وهو المقتصد ومنهم من يتأثر تأثراً تاماً وهو السابق، وقريب منه ما قيل‏:‏ إن الاصطفاء مشكك تتفاوت مراتبه وأولها ما يكون للمؤمن الظالم لنفسه وفوقه ما يكون للمقتصد وفوق الفوق ما يكون للسابق بالخيرات فجاء الترتيب كالترقي في المراتب، وقيل‏:‏ أخل السابق لتعدد ما يتعلق به فلو قدم أو وسط لبعد في الجملة ما بين الأقسام المتعاطفة ولما كان الاقتصاد كالنسبة بين الظلم والسبق اقتضى ذلك تقديم الظالم وتأخير المقتصد ليكون المقتصد بين الظالم والسابق لفظاً كما هو بينهما معنى، وقد يقال‏:‏ رتب هذه الثلاثة هذا الترتيب ليوافق حالهم في الذكر بالنسبة إلى ما وعدوا به من الجنات في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏جنات عَدْنٍ‏}‏ الآية حالهم في الحشر عند تحقق الوعد فأخر السابق الداخل في الجنان أولاً ليتصل ذكره بذكر الجنات الموعود بها وذكر قبله المقتصد وجعل السابق فاصلاً بينه وبين الجنات لأنه إنما يدخلها بعده فيكون فاصلاً بينه وبينها في الدخول وذكر قبلهما الظالم لنفسه لأنه إنما يدخلها ويتصل بها بعد دخولهما فتأخير السابق في المعنى تقديم وتقديم الظالم في المعنى تأخير، ويحتمل ذلك أوجهاً أخرى تظهر بالتأمل فتأمل، وقرأ أبو عمران الجوني‏.‏ وعمر بن أبي شجاع‏.‏ ويعقوب في رواية‏.‏ والقزاز عن أبي عمرو ‏{‏سَابِقُ‏}‏ بصيغة المبالغة ‏{‏ذلك‏}‏ أي ما تقدم من الإيراث والاصطفاء ‏{‏هُوَ الفضل الكبير‏}‏ من الله عز وجل لا دخل للكسب فيه‏.‏